كان أول ظهور الباطنية ببلاد الشام في مدينة حلب، التي كانت تحت حكم الملك السلجوقي رضوان بن تتش، حيث أقام الداعي الباطني الحكيم المنجم الذي أرسله الحسن بن الصباح من ألموت لنشر الدعوة في الشام واستطاع استمالة رضوان إلى الباطنية على أساس أن يستغل هذا شجاعة الباطنية في اغتيال خصومه السياسيين، فحفظ الملك رضوان جانبهم وشايعهم حتى أصبح لهم بحلب دار دعوة .لكن لم يلبث أن توفي الحكيم المنجم فتولى أمر الباطنية بعده في الشام رفيقه أبو طاهر الصائغ العجمي الذي سار على نفس الطريقة التي سارت عليها الباطنية في بلاد فارس، فاعتمد الاغتيال كوسيلة لتثبيت أقدامه في الشام وفرض سيطرته، فقام في عام 498هـ باغتيال خلف بن ملاعب صاحب أفامية عن طريق أحد دعاته هناك، حيث تسلم أبو طاهر الصائغ الحصن عقب ذلك وأقام فيه .بعد استفحال أمر الباطنية في حلب والشام، أرسل السلطان السلجوقي محمّد ابن ملكشاه إلى ألب أرسلان بن رضوان بن تتش -الذي تولى الحكم في حلب بعد وفاة أبيه- أن يفتك بالباطنية ويقتلهم، فقرر ألب أرسلان الإيقاع بهم والقضاء عليهم، فقبض على أبي طاهر الصائغ وقتله، وقتل إسماعيل الداعي وأخا الحكيم المنجم والأعيان من أصحاب هذا المذهب الباطني بحلب واستصفى أموالهم وتفرقوا في البلاد .ظلّت الباطنية في الشام مختفية مغلوبة على أمرها، بسبب مطاردة الحكام والعامة لها، إلى أن جاءت سنة 520هـ، حيث كان على زعامة الباطنية رجل يعرف باسم بهرام، فقال عنه ابن القلانسي: "وفي هذه السنة استفحل أمر بهرام داعي الباطنية وعظم خطبه في حلب والشام، وهو على غاية من الاستتار والاختفاء وتغيير الزي واللباس، بحيث يطوف البلاد والمعاقل ولا يعرف أحد شخصه" .استقر المقام بداعي الباطنية بهرام في دمشق حيث أرسل نجم الدين اليغازي ابن أرتق صاحب الموصل إلى الأمير ظهير الدين أتابك دمشق خطابا يستأذنه في أن يقيم عنده بهرام حتى يؤمن شره وشر جماعته، فأذن له الأمير ظهير الدين بالمقام عنده في دمشق، وفي دمشق "وافق وزير الأمير ظهير الدين أبو عليّ طاهر ابن سعيد المزدقاني داعي الباطنية بهرام، وساعده على نشر مذهبه وبث أفكاره، فعظمت المصيبة بهم، وجلت المحنة بظهور أمرهم، وضاقت صدور الفقهاء والمتدينين والعلماء وأهل السنة، والمقدمين، وأحجم كل منهم عن الكلام فيهم، دفعا لشرهم وارتقابا لدائرة السوء عليهم، لأنهم شرعوا في قتل من يعاندهم، ومعاضدة من يؤازرهم على ضلالهم" .لم يكتف بهرام بهذا، بل حن على ماضيه وماضي جماعته في سفك الدماء وقتل الأبرياء، فحدثته نفسه بقتل برق بن جندل أحد مقدمي وادي التيم لغير سبب، فخدعه إلى أن حصل في يده، فاعتقله وقتله صبرا، لكن أخاه ضحاكاً لم ينم على دم أخيه فجمع أتباعه وعقدوا العزم على الأخذ بثأر برق، فسار ضحاك مع أتباعه والتقى مع أصحاب بهرام ودارت بينهما معركة في وادي التيم أسفرت عن هزيمة أصحاب بهرام حيث قتل أكثرهم وسقط بهرام نفسه قتيلا في هذه المعركة" . بعد مقتل بهرام قام مقامه في قلعة بانياس رجل من الباطنية اسمه إسماعيل العجمي، وأقام الوزير المزدقاني عوض بهرام بدمشق رجلا من الباطنية اسمه أبو الوفا، فعظم أمر أبي الوفا هذا بسبب مساندة الوزير المزدقاني له، حتى أصبح حكمه في دمشق أكثر من حكم صاحبها تاج الملك بوري.لم يقنع أبو الوفا بهذا، بل حدثته نفسه بالخيانة والاستعانة بالصليبيين على أهل دمشق المسلمين، وتسليم دمشق إليهم، فكاتب أبو الوفا زعيم الباطنية في الشام الفرنج على أن يسلم إليهم دمشق، ويسلموا إليه عوضها مدينة صور، واتفقوا على ذلك، وتقرر بينهم الميعاد على أن يكون قدوم الصليبيين إلى دمشق في يوم جمعة وقت الصلاة، على أن يجعل أبو الوفا أصحابه على أبواب جامع دمشق، فلا يمكنوا أحداً من الخروج منه حتى يجيء الفرنج ويتسلموا دمشق... علم تام الدين بوري صاحب دمشق بهذه المؤامرة، فبادر بالتخلص من أصحابها، ومن كل من ساهم فيها، وبدأ بوزيره أبي علي طاهر بن سعيد المزدقاني، فاستدعاه إليه فحضر، وخلا معه فقتله تاج الملك لتواطئه مع الباطنية، وعلق رأسه على باب القلعة، ثم نادى تاج الملك في البلد بقتل الباطنية، فثار بهم أهل دمشق فقتلوا منهم ستة آلاف نفر، وكفى الله المسلمين شرهم .أما الصليبيون فلقد وصلوا على الميعاد المقرر بينهم وبين الباطنية وحاصروا دمشق استعداداً لأخذها، لكنهم علموا أن تاج الملك قد بطش بحلفائهم وقضى عليهم فتأسفوا على ذلك أشد الأسف وغضبوا على عدم تمكنهم من أخذ دمشق، وأرسلوا إلى أعمال دمشق لجمع الميرة والإغارة على البلد فلما سمع تاج الملك بذلك أرسل أميراً من أمرائه يعرف بشمس الخواص في جمع المسلمين إليهم، فلقوا الفرنج وقاتلوهم، فصبر بعضهم لبعض، فظفر المسلمون بهم وقتلوهم، وأخذوا ما معهم من غنائم وهي عشرة آلاف دابة وثلاثمائة أسير، فلما علم المحاصرون لدمشق بهذا ألقي في قلوبهم الرعب، فرحلوا عن دمشق شبه المنهزمين وكان البرد والشتاء شديداً فخرج تاج الملوك في أثرهم وأخذ يطاردهم حتى قتل كل من تخلف منهم .أما صاحب بانياس الباطني إسماعيل العجمي فلما سمع هو وأصحابه بما وقع لأقرانهم في دمشق أسقط في أيديهم، فخاف إسماعيل على نفسه وعلى أصحابه من أنه يثور به الناس فيقتلونهم، فراسل الفرنج، وبذل لهم تسليم بانياس على أن ينتقل إلى بلادهم ليأمن بهم، فأجابوه إلى ذلك فسلمها إليهم، وخرج هو وأصحابه متسللين من بانياس إلى الأعمال الفرنجية على غاية من الذلة، ونهاية من القلة، فلقوا شدة وهوانا .ظل الحشيشية الباطنية في بلاد الشام على صلة وثيقة بالصليبيين يتآمرون على المسلمين من أهل السنة، ولا يتركون فرصة تلوح للانتقام منهم إلا اهتبلوها، فوجهوا كل عملياتهم ومؤامراتهم ضد قادة الجبهة الإسلامية ضد الصليبيين والمؤسسات السنية في الشام –"فلم يقاتل الحشيشية (النزارية) الإثنى عشرية أو الشيعة الآخرين، ولم يديروا سكاكينهم ضد النصارى أو اليهود المحليين" –وهذا يثبت لنا بالدليل القاطع الصلات الوثيقة، وحقيقة التعاون بين الباطنية والصليبيين من جهة واليهود من جهة أخرى.فمن الأدلة التي تثبت حقيقة التعاون بين الباطنية والصليبيين أن زعيم الباطنية في الشام راشد الدين سنانت أرسل في عام 569هـ وفداً إلى أملريك ملك بيت المقدس يقترح عليه اتفاقاً بين الطرفين ضد القائد المسلم الملك العادل نور الدين محمود، ولوح سنان لملك بيت المقدس بأنه وقومه يفكرون بالتحول نحو النصرانية، وطلب منه مقابل ذلك إلغاء الضريبة التي فرضتها فرسان الداوية الصليبيين على بعض القرى الإسماعيلية الباطنية في الشام، ولما عاد وفد الباطنية الحشيشية من القدس سقط في كمين لفرسان الداوية، فقتل الداوية جميع أفراد الوفد فأثاروا بذلك غضب أملريك ملك بيت المقدس الصليبي، فبعث بكتاب توبيخ للجناة، وطلب من مقدم الداوية سجنهم، كما أرسل إلى سنان مقدم الباطنية معتذراً، وأعلمه أن الجناة نالوا عقابهم، فكان لهذا العمل أثره الذي زاد في إبقاء العلاقات الطيبة بين الطرفين .أما عن علاقة الباطنية النزارية باليهود، فيبدو أنها لا تقل درجة عن علاقتهم بالصليبيين، بل كانت أقوى حيث كان الطرفان ممتزجين ببعضهما البعض، فلقد كان عدد كبير من اليهود يعمل بين صفوف الحركة الباطنية النزارية في الشام لخدمة أهدافها، وقد ذكر الرحالة اليهودي بنيامين الذي زار منطقة الشام حوالي عام 569هـ بأنه كان يقيم بين الإسماعيلية في الشام نحو أربعة آلاف يهودي، يسكنون الجبال مثلهم، ويرافقونهم في غزواتهم وحروبهم، وهم أشداء لا يقدر أحد على قتالهم، وبينهم العلماء التابعون لنفوذ رأس الجالوت ببغداد .ومن الأدلة الأخرى التي تثبت حقيقة التعاون بين الإسماعيلية الباطنية واليهود ضد المسلمين السنة، أن كاتب الرسائل الباطنية الموجهة إلى ملك بيت المقدس الصليبي بشأن الاتفاق معه للزحف على مصر وقيام الباطنية في الداخل بثورة ضد صلاح الدين وقتله وقتل أتباعه وأخذ مصر منه وإعادة الدولة الفاطمية مرة أخرى، كان كاتب هذه الرسائل يهودي .ومن هذا يتضح أن الطوائف الباطنية من إسماعيلية ونصيرية ودروز ليسوا من المسلمين حقيقة، لا بالقول ولا بالفعل ولا بالاعتقاد، فلقد كانت مواقفهم دائماً مناوئة للإسلام والمسلمين، بل تعاونوا في كل الأوقات مع أعداء الإسلام والمسلمين من صليبيين ويهود .لم يقف الباطنية في الشام عند حد التعاون مع الصليبيين بعقد الاتفاقات بين الطرفين: واغتيال القادة المسلمين الذين هبوا للجهاد في سبيل الله ضد الصليبيين. بل تعدى الأمر إلى أبعد من ذلك، فلقد أصبح الباطنيون يخوضون مع الصليبيين المعارك الحربية جنبا إلى جنب ضد المسلمين، فعندما عزم الملك العادل نور الدين محمود في عام 543هـ توجيه ضرباته إلى الصليبيين ومهاجمة مناطقهم، تعاون الباطنية مع الصليبيين ضد هذا الجهاد، ووقفوا مع الصليبيين ضد حركة نور الدين الجهادية هذه ففي عام 544هـ أغار نور الدين محمود على الإقليم المحيط بقلعة حارم على الضفة الشرقية لنهر العاصي، وهي تابعة للصليبيين، وطلب من معين الدين أنر المعونة والمساعدة لقتال الصليبيين، فأمده معين الدين بقوة من فرسانه على رأسهم الأمير مجاهد الدين بزان بن مامين وعندما ترك نور الدين حارم مكتفيا بتدمير ما حولها من ضياع، أخذ يحاصر قلعة أنب ، فلما علم البرنس ريموند صاحب أنطاكية بمحاصرة نور الدين لتلك القلعة، خرج على رأس قوة من رجاله للتصدي لنور الدين وإرجاعه عنها . فالتقى الفريقان في معركة بالقرب من أنب وأحاط نور الدين محمود بريموند ورجاله فأبادهم جميعاً ولم يبق منهم أحداً، وكان من جملة القتلى البرنس ريموند صاحب أنطاكية، ففرح المسلمون كثيراً بقتله ورينو صاحب كيسوم ومعرش فضلاً عن عليّ بن وفاء زعيم الباطنية الذي كان مرافقاً للصليبيين ومحارباً معهم في هذه المعركة .استمر زعماء الباطنية في سياستهم المتحالفة مع الصليبيين ولم يتركوا أي فرصة تلوح لعقد أي اتفاق أو تحالف بينهم وبين الصليبيين وكانوا حريصين على ذلك أشد الحرص حتى يعرقلوا أي حركة جهادية يقوم بها المسلمون ضد الصليبيين. ففي أثناء رحلة هنري دي شامبني ملك مملكة بيت المقدس إلى أنطاكية لتصفية النزاع بين أنطاكية وأرمينية اتصل هنري بالباطنية في مناطق نفوذهم، وعقد معهم أواصر التحالف والصداقة، وانتهز زعيم الباطنية فرصة مرور هنري دي شامبني بأراضيه إلى أنطاكية، فحاول أن يجدد ما كان بين الباطنية والصليبيين من تحالف فاعتذر لنهري عن مقتل كونراد دي مونتفرات ودعاه لزيارة الباطنية في حصن الكهف، فحرص الباطنية أثناء تلك الزيارة على أن يبهروا أنظار ملك الصليبيين بقوتهم وثروتهم، فقدموا إليه كثيراً من الهدايا، كما عرضوا عليه محالفتهم واستعدادهم لقتل من يرغب في قتله .يقول دريد عبدالقادر في كتابه (سياسة صلاح الدين): ويعتقد المؤرخ (كاهين) أن هناك علاقة بين الإسماعيلية وجماعة الإسبتاريين الصليبيين الذين أصبحوا حماة الإسماعيلية، وأن أولئك الذين اغتيلوا من الصليبيين إنما كانوا أعداء الإسبتاريين . وقد أيد المؤرخ الإنجليزي هدجسون وجود مثل تلك العلاقة، وأعتقد بأن هناك إشارات واضحة تدل على ذلك وبعد قيام دولة المماليك في مصر وعقد الصلح بينهم وبين الأيوبيين في الشام لم يعد هناك أي شاغل يشغل الطرفين غير الجهاد ضد الصليبيين فاجتمعت جهودهم وقواهم وأخذ كل واحد منهم يعمل من عنده في حرب الصليبيين، وفي المقابل وأمام هذا الاتفاق بين مصر والشام، قام لويس التاسع قائد الصليبيين بتنظيم الدفاع عن الممتلكات والبلدان الصليبية فقام بتحصين المدن والموانئ الصليبية بتحصينات حربية ضخمة حتى تصمد في وجه الهجمات والغارات الإسلامية، ولكي يكمل لويس التاسع نظامه الدفاعي عن الممتلكات الصليبية في بلاد الشام سعى إلى عقد اتفاقيات وتحالفات واسعة النطاق مع أعداء المسلمين السنة في الشام، فحاول التحالف مع الباطنية الشيعة الحشاشين من ناحية ومع المغول من ناحية أخرى حتى يتحقق له بهذا التحالف نوع من التوازن بين الصليبيين من جهة والمماليك والأيوبيين من جهة ثانية.فعندما علم شيخ الجبل –زعيم الحشاشين في بلاد الشام- بوصول لويس التاسع إلى الشام أرسل إليه يطلب منه عقد نوع من الارتباط والتفاهم بين الطرفين، ويبدو أن الباطنية أرادوا من وراء ذلك أن يؤمنوا أنفسهم إزاء الموقف الجديد الناشئ عن قيام دولة المماليك في مصر ووقوفها إلى جانب الأيوبيين في الجهاد ضد الصليبيين عن طريق عقد تحالف مع الصليبيين بالشام، فأرسل شيخ الجبل زعيم الباطنية بعض الهدايا إلى لويس التاسع ملك فرنسا –من جملتها فيل من البللور- فرد عليه ملك فرنسا لويس التحية بأحسن منها، مما أدى إلى تقوية أواصر التحالف بين الطرفين .وأثناء الغزو المغولي الذي استهدف الممالك الإسلامية والخلافة العباسية في بغداد، ورأى الإسماعيلية الباطنية أن مطامع المغول لا تقف عند حد، وأن فتوحاتهم مستمرة، خافوا خطرهم، وصمموا على مقاومتهم فأخذوا يرسلون رسلهم على إنجلترا وفرنسا سنة 637هـ طالبين معونة الأوربيين الذين عرفوهم إبان الحروب الصليبية، لكنهم لم يلقوا مجيباً يشهد بذلك ما قاله أسقف مدينة ونشستر Winchester: "دع هؤلاء الكلاب يأكل بعضهم بعضاً حتى يقضى عليهم نهائياً، وعندئذ سوف نقيم على أنقاضهم الكنيسة الكاثوليكية العالمية، فتكون حقا راعياً واحداً وقطيعاً واحداً" .

المراجع

الدرر السنيه

التصانيف

تصنيف :السنه النبويه