واصل أبو دجانة دربه الممهد بالدم والنار والبارود ليقطع صحراء التيه في سيناء، ويصل إلى كبد الحقيقة (بيت المقدس) وكما رحل (موسى عليه السلام) الهجرة الأولى وحيداً شريداً ملاحَقاً …رحل أبو دجانة في ذات الدرب ليصل إلى المعشوقة (بيت المقدس)، ريصل أبو دجانة بعد الرحلة الطويلة منهمكاً، واحتضنته (غزة) … أرض المقاومة والثورة. كانت الرحلة بين مصر وفلسطين شاقة وعسيرة على الفتى اليافع رغم القرب القلبي والمكاني بينهما … لأن عصام الشاب المسلم المصري الفطن محرم عليه الخروج أو الدخول، فكيف إلى (فلسطين المحتلة) التي لا يدخل معبرها جيئاً وإياباً إلا أصحاب العيون الزرقاء والشعر الأصفر.

أما عصام فكان عليه أن يلتجأ إلى الطرق الملتوية للوصول إلى فلسطين، فأعد لذلك جواز سفر مزيف باسم (لؤي) وحمله مهاجراً إلى الله مجاهداً في سبيله.

في طريق الرحلة بين مصر وغزة كان يحلم أبو دجانة بكل شيء ويطوف في وادي الذكريات، فرحل إلى المستقبل القريب وكيف سيلقى الله تبارك وتعالى على الأرض المقدسة، وهل تتحقق أحلام حياته العريضة بالشهادة حقيقة على أرض الرباط والجهاد.

فقد غرس حب الشهادة ولقاء الله تبارك وتعالى في قلب أبو دجانة ولم يبق في هذا القلب الصغير متسع لأي شيء آخر، وقد ترسخت هذه الأمنية بمتابعته أخبار المجاهدين في فلسطين، ومن الصعيد المصري حمل كل هموم الإسلام وكل المعاناة التي يلقاها أهل هذا الدين العظيم…

رحلت فيه الخواطر يوم أن داهمت المخابرات المصرية بيته لاعتقاله إثر إغتيال رئيس مجلس الشعب المصري (رفعت المحجوب)، وقد أفرج عنه بعد جولات تحقيق قاسية لا زال فرقعة السياط على جسده النحيل يرن صداها في أذنيه ويتحسس موقعها بيديه فيشعر بقسوة الألم والظلم الذي وقع عليه وأمثاله دون جريمة تذكر … رحلت كل خواطر (أبي دجانة) إلى الواقع المضطهد الذي يحياه مسلمو العالم … وكيف تحول هذا الشعور المكبوت إلى فعل متحرك يبتغي وجه الله تبارك وتعالى، فقد بادر (أبو دجانة) الذي يحما همّ الوطن الكبير، ألا وهو الإسلام إلى تسجيل اسمه ضمن المتطوعين للجهاد في البوسنة والهرسك …

أراد بذلك الشهادة والأجر من الله تبارك وتعالى وأراد نصرة دين الله ولكن السلطات المصرية منعته من السفر إلى البوسنة للقتال ضد الصرب.

كان يسمع (أبو دجانة) يوميا بالجرائم الصربية ضد المسلمين التي تجاوزت كل الأعراف الإنسانية ويذوب في نفسه حسرة وكمدا على أولئك الذين أغلقوا الحدود وحاصروا المجاهدين خدمة لمشاريع غربية تهدف إلى استرار السيطرة على الإنسان والأرض الإسلامية …

حلم الشهادة الذي نشأ مع (أبي دجانة) منذ نعومة أظفاره لم يكن لينتهي أو يزول نتيجة عوائق بشرية، ولكنه بقي يترقب هذا الأمل الموعود يطوف بخاطره كل أرجاء الوطن الكبير ويحويه بقلبه وعقله وأمله في أن يراه حراً كريماً عزيزاً وأن يقدم روحه ودماءه وأشلاءه فداء لهذه العزة والكرامة.

كانت الشهادة على أرض فلسطين وفي بيت المقدس خاصة حلمه الأكبر، ولما كان يرى هذا الحلم بعيد المنال انصرف عنه للتفكير في الشهادة في أي مكان آخر، ولكن قدر الله تبارك وتعالى يرسم لأبي دجانة ملحمة من نوع خاص ليس على أرض فلسطين فحسب، ولكن في قلب بيت المقدس عروس المواجهة مع الكيان اليهودي ورأس الحربة والطعنة السامة التي تلقاها المسلمون في أعز ما يملكون.

كان أبو دجانة يسمع كثيراً عن (كتائب الشهيد عز الدين القسام) و (حماس) والانتفاضة وجميعها مفردات ترسخت في دهن الشاب الصامت الكتوم … كما كان يحلم في منامه وفي يقظته أنه في فلسطين وأنه ضمن كتائب القسام مقاتلاً صلباً عنيداً وأنه شهيد على هذه الأرض الطاهرة الطيبة.

لم يكن أبو دجانة قد رأى بيت المقدس والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، ولكنه كان يرحل كل يوم إليها عاشقاً متلهفاً متمنياً الموت على ثراها الطاهر، وكم بحث في غياهب الكبت عن آيات القرآن الكريم وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تحدثت عن الأقصى وفضل الرباط حوله والموت على ثراه …

ولم تكن خوالج قلب أبي دجانة حالة شاذة في العالم الإسلامي، فكم هي القلوب التي تختلج بحب الإسلام وفلسطين والأقصى، ولكن أبا دجانة كان حالة الفعل والتنفيذ لكل خلجات القلوب المسلمة على امتداد الوطن الأسير من المحيط إلى الخليج.

كان العصامي (أبو دجانة) الذي يحمل كل الأصالة المصرية العريقة، وكل غيرة الصعيد المصري قد أنهى دراسة الثانوية ورفض الزواج عدة مرات رغبة منه في الشهادة ونيل الدرجات العلى في الجنة، لم يبق في قلبه متسع لغير الله ورسوله والشهادة في سبيله، فقد كانت كل حياته وربما سيرة حياته تنبئ عن سريرته التي طوى عليها صحائف قلبه حتى لقى الله وهو عنه راض بإذن الله، كيف لا وقد فارق الوطن والأحباب والأهل وترك كل شيء في هجرة نموذجية عز نظيرها تحملنا إلى هجرة (صهيب الرومي) وإخوانه الصحابة الأجلاء تاركين كل شيء من أجل الله ورسوله …

هذا العشق المتلهف للشهادة والتضحية في سبيل الله تبارك وتعالى دفع عصام إن يكني نفسه (أبا دجانة) نسبة إلى الصحابي الجليل (سمّاك ابن خرشة) الذي لقى الله وهو يتمترس دفاعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.

واصل أبو دجانة دربه الممهر بالدم والنار والبارود ليقطع صحراء التيه في سيناء ويصل إلى كبد الحقيقة (بيت المقدس) وكم ارحل موسى عليه السلام الهجرة الأولى،وحيداً شريداً ….ملاحقاً….رحل أبو دجانة في ذات الدرب ليصل إلى المعشوقة (بيت المقدس)،وسكن مؤقتاً حي المجاهدين (الشيخ الرضوان)وبدأ يسعى(أبو دجانة)نحو هدفه الذي قدم من أجله وبدأ يسأل عن القسام ومطارديه حتى عثر بعد طول عناء على المطارد القسامي (محمد الضيف)الذي سرعان ما أدرج اسمه في قوائم العمل الجهادى ليضع أبو دجانة قدمه الأول في درب الشهادة،ويتعرف أبو دجانة على شقيق رحلة الهجرة إلى الله والرحيل إلى الجنة حسن عباس أبو مصعب ويبدأ المجاهدان سوياً في رسم خطة المواجهة الجريئة في قلب القدس بعد أن تدرب أبو دجانة على الأسلحة اللازمة لاستخدامها في العمل الفدائي الموعود.

كان طوال تلك الفترة يختفي أبو دجانة خلف اسمه المستعار لؤي ويخبر من يعرفهم انه شرطي من مصر، زيادة في التخفي ولم يكن قد أنبأ أحد من أهله بنيته الشهادة التي حملها في خلجات قلبه ورحل بها إلى(فلسطين) الجهاد والمقاومة،فقد كان حريصاً على أن يبقى عمله مكتوما حتى ينال الأجر الجزيل من الله تبارك وتعالى وحتى لاتصل أخباره فتضيع منه فرصة الشهادة التي طالما تردد أن يلتقيها في ذكرى مجزرة المسجد الأقصى،وان يكون معراجه إلى السماء من بيت المقدس.

واحتفاء بهذا العرس العظيم تم تصوير الشهيدين (أبو دجانة وأبى مصعب) قبل تنفيذ العملية ليوجها إلى الأمة التي تقف خلف أسلاك العجز والهوان تتراجع عن حقها وقدسها أننا نحن الطليعة وان دمنا هو زيت قنديل الحرية وان أشلائنا وعظامنا تعبر الطريق للسالكين نحو النور المتوهج المنبثق من فجر قلوبنا التي تحمل كل الحب للإسلام وللوطن وللأقصى..فهيا تقدموا.

كان أبو دجانة يتمثل الصحابي الجليل (ابا دجانة)وهو يربط عصابته الحمراء ويحمل سلاحه الوضاء مختالاً أمام صفوف الكافرين،ويصفه النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول :"هذه مشية يكرهها الله ورسوله إلا في مثل هذا الموضع"،يقف(و أبو دجانة الجوهري) بعصابته الحمراء يحمل كل الكبرياء والشموخ ليعلن إزالة كل الحدود والحواجز والسدود ويعبر بشلال دمه مرحلة جديدة من أن فلسطين للمسلمين جميعاً وأنهم مسؤولون أمام الله تبارك وتعالى عن ترك الجهاد لخلاصها.

وقبل أن يبزغ فجر التاسع من أكتوبر من عام 1994م ذكرى الأقصى الأسير بأربعة أيام تحرك المجاهدان من غزاة ارض الفدائية صوب بيت المقدس تحمل في رحالها(أبو دجانة) العصر الحديث وقد أعد كل شيء لتنفيذ الخطة المرسومة بعناية،وفي التاسع من أكتوبر وفي ميدان مليء باليهود في مدينة القدس صوب (أبو دجانة)وشقيقه المجاهد(أبو مصعب)رصاص الكلاشنكوف الهدار إلى الجمع الذي قتل المسلمين في المسجد الأقصى وتنطلق مئات الرصاصات ويقذف المجاهدان اثني عشر قنبلة داخل مقهى إسرائيلي ويقدر الله تبارك وتعالى وجود وحدة خاصة للجيش الإسرائيلي في المكان ساعة التنفيذ ويقع اشتباك عنيف ومطاردة من شارع إلى آخر والعصابة الفدائية الحمراء في كل مكان تقذف الرعب والهلع في صفوف بني إسرائيل تعيد في قلوبهم جبنهم الذي نسوه خلف جدران الوهم والدعم ليقفوا أمام اسود القسام عاجزين أقزام والمواجهة في عقر أمنهم المزعوم.

وظلت العصابة الحمراء تتحرك لتزرع الرعب في كل مكان حتى نفذت ذخيرة أبي دجانة لتستقر رصاصات يهودية في الصدر الذي طالما انتظر هذه اللحظة الغالية وسخر لها كل حياته ووظف من اجلها كل أبجديات العطاء اللامحدود.

ليسقط الجسد العملاق مدرجاً بدمه معلناً حقيقة الصراع مع مغتصبي الأرض، يقف الجسد العظيم عن الحراك بعد أن سطر ملحمة عز نظيرها،وبعد أن زرع الرعب في أوصال دولة يهود،وفي قلب المدينة المقدسة، وبعد أن سقط القتلى والجرحى مدرجين بدمائهم بعد أن اخترقت أجسادهم رصاصات أبي دجانة القسامي لتعتقل السلطات الإسرائيلية بعد هذا الهجوم الجريء جثة البطل المقدام أبي دجانة.

وما إن تناقلت إسرائيل الخبر وعلمت أن المجاهد الفذ قد قدم من مصر (ارض الكنانة) حتى حن حنون رابين وحكومته وحتى تحركت القوات المصرية نحو منزل الشهيد تداهمه وتعتقل إخوانه والعديد من أصدقاء الشهيد في محاولة يائسة لوقف المد المتصاعد من العطاء والجهاد في شتى الميادين…

ولكن شيخ الأزهر (جاد الحق علي جاد الحق) يقف موقفاً شامخاً يحفظ له ويصدر بياناً يعلن فيه(عصام الجوهري) شهيد قاتل من اجل قضية عادلة وهي القدس.

ويقف نبض الشهيد الغالي بعد أن سطر ملحمة بطولية عز نظيرها وبعد أن أعلن بكل الجوارح أن الطريق إلى القدس لن تغلقه حدود أو تقف دونه حواجز أو تمنع الوصول إليه أسلاك شائكة وإنما الوصول إليها يسير سهل لمن رفع راية الجهاد خفاقة وحمل روحه فوق كفه وقطع أولا كل أسلاك الخوف،وتجاوز حدود الجبن وتعدى حواجز الوهن التي زرعناها في قلوبنا،فما جنت هذه القلوب إلا الذل والمهانة والضياع للدين والأرض والإنسان …

فإلى من رسم طريق القدس من الصعيد المصري إلى بيت المقدس بمداد من دم ورصاص ألف ألف سلام…


المراجع

موقع مملكة القصص الواقعية

التصانيف

قصص